كثرت في الآونة الأخيرة المقالات التي تصوّر القضاء باعتباره “منبع الفساد” و”أصل الخراب”، وتُحمّله وحده وزر ما تعيشه البلاد من أزمات اقتصادية واجتماعية وسياسية.
ولأن النقاش الأكاديمي والوطني الجاد يقتضي الرد الموضوعي، فإن من اللازم أن نضع هذه الأطروحات موضع المراجعة والتحليل المتوازن، بعيداً عن الانفعال والتعميم.
1 /القضاء ليس منبع الفساد:
القول بأن فساد البلد ينطلق من فساد قضائه تعميم يجافي الحقيقة. فالفساد منظومة معقدة تتشابك فيها السياسة والإدارة والاقتصاد. القضاء يتأثر بها كبقية المؤسسات، لكنه ليس مصدرها الوحيد. التجارب الدولية أثبتت أن الإصلاح الناجع يكون شاملاً، ولا يقتصر على جانب دون آخر.
2 / الاستثمار والرخاء لا يتوقفان على القضاء وحده:
صحيح أن قضاءً نزيهاً يعزز الثقة في المعاملات التجارية، لكن العوامل الاقتصادية الأساسية ـ من استقرار سياسي، وشفافية مالية، وبنية تحتية ـ لا تقل أهمية.
إن إرجاع ضعف الاستثمارات إلى القضاء وحده تبسيط يختزل المشهد المعقد في عنصر واحد.
3 / القضاء ليس أصل الفوضى الإدارية والأمنية:
الفوضى الإدارية والأمنية ترتبط مباشرة بأداء الأجهزة التنفيذية والأمنية. القضاء ليست مهمته إدارة الوزارات أو ضبط الأمن، وإنما البت في النزاعات وتطبيق القانون.
الخلط بين الاختصاصات يضلل الرأي العام، ويُحمِّل القضاء مسؤوليات خارجة عن مجاله.
4 / الاستقلال مكفول، والانحرافات لا تبرر التعميم:
اتهام القضاء بأنه يخضع “لإملاءات السياسيين” أو أنه “يساوم الفاسدين” لا يستند إلى دليل منهجي، بل إلى انطباعات أو وقائع معزولة.
الدستور والقوانين يكفلان استقلال القضاة، والواقع يشهد بوجود قضاة أكفاء ونزهاء يصدرون يومياً أحكاماً محترمة. التعميم فيه ظلم لهذه الأغلبية.
5 / القانون ليس ديكوراً:
القوانين الموريتانية نافذة وملزمة، وتُطبّق يومياً في المحاكم على آلاف القضايا. القول بأنها مجرد “ورق بلا روح” إلغاء لجهد المشرّع، وإنكار لمرجعية الدولة القانونية.
قد تكون هناك حاجة لتحديث النصوص أو تحسين التطبيق، لكن التشريع يظل العمود الفقري للنظام العام.
6 / الحوكمة لا تختزل في القضاء:
تصوير سوء الحكامة كحكم بالإعدام على مستقبل الوطن، مع ربطه حصراً بالقضاء، خطاب تحذيري أكثر منه تحليلاً علمياً.
الإصلاح القضائي مطلوب، لكنه لا يتم بالخطاب التبخيسي، بل عبر تعزيز التفتيش، والتكوين، وتفعيل المجلس الأعلى للقضاء، وإشراك المجتمع المدني بمسؤولية.
7 / القضاء ليس الخطر الأكبر على الدولة:
المخاطر الحقيقية التي تهدد الدول تتوزع بين :
– الفساد المالي
– هشاشة المؤسسات
– ضعف الأمن.
- غياب الشفافية الاقتصادية.
القضاء يتأثر بهذه العوامل، لكنه ليس وحده المسؤول عنها.
القول بعكس ذلك مبالغة لا تنسجم مع الدراسات المؤسسية.
8/ المسؤولية مشتركة لا حصرية :
تحميل السلطة التنفيذية وحدها مسؤولية أي خلل في القضاء طرح غير دقيق.
الإصلاح القضائي مسؤولية مشتركة بين المجلس الأعلى للقضاء و البرلمان من خلال التشريعات، والسلطة التنفيذية عبر الإمكانيات، ثم الرقابة المجتمعية.
9 / المجتمع والنخب ليسوا خونة:
إطلاق أوصاف مثل “الخيانة” على صمت النخب والمجتمع لغة انفعالية لا تخدم النقاش. الإصلاح يحتاج إلى وعي جماعي وتدرج مؤسسي، لا إلى تبكيت أو تخوين.
10 / الإصلاح عملية تراكمية لا فورية:
الدعوة إلى إصلاح جذري فوري وإلا الانحدار إلى “دولة فاشلة” تعبير أقرب إلى الصرخة الإعلامية منه إلى التحليل الأكاديمي.
التجارب الدولية أثبتت أن الإصلاح القضائي يكون تدريجياً، وأن الدول تعبر مراحل صعبة ثم تستعيد عافيتها عبر التراكم والتدرج.
في المقابل: الإصلاح مطلب مشروع
لا يعني هذا أن القضاء في مأمن من النقد أو أنه مكتمل البنيان.
الحاجة ملحة إلى تكوين دوري للقضاة، وتفعيل آليات التفتيش والرقابة، وضمان شفافية الاختيارات المهنية.
لكن هذه المطالب يجب أن تُطرح بروح إصلاحية بنّاءة، لا بخطاب التعميم والتبخيس.
فى النهاية
القضاء مؤسسة محورية، لكنه ليس “منبع الفساد” ولا “أصل الخراب”. هو جزء من منظومة الدولة، يتأثر بضعفها ويقوى بقوتها.
الإصلاح الحقيقي يمر عبر تعزيز استقلال القضاء، ودعمه بالوسائل المادية والبشرية، مع ترسيخ الشفافية والمساءلة. أما التعميم والتشهير، فإنه يظلم القضاة النزهاء، ويضعف الثقة في العدالة من غير أن يقدّم حلولاً عملية.
القضاء يجب أن يُنتقد ليُصلح، لكن يجب أن يُنصف ليبقى صمام أمان الدولة والمجتمع
القاضى /محمدن الشيخ
مكلف بمهمة لدى وزير العدل