هنا قامت الثورة، بين تفاصيل هذه الممرات التى تفصل زوايا الميدان اشتعلت وخبت، حفظت تفاصيل الميدان ازدهارها وانكسارها هتاف أبنائها ودموعهم، وعرفت جدرانه كيف تسرد حكاية ثورة كانت ومازالت هناك على الرغم من محاولات طمسها ومحو ذكرياتها تدريجياً منذ أن بدأت حملات تغيير شكل الميادين التى انطلقت من ميدان التحرير كاسحة معها ثلاثة سنوات من الجرافيتى والهتافات وعلامات الدم التى رسمت شكل الجدران ورائحة المنازل، وغيرها من ذكريات الثورة التى اختفت تحت طلاء أصم وتجديدات صامتة لم تحتفظ بروح الثورة فى أيام شبابها الأول.
نصب تذكارى فى منتصف “صينية الميدان”، طلاء أصفر اكتست به جدران محمد محمود، والاتحادية وجدران “وسط البلد” والجدارن العازلة التى سردت بدون ملل أحداث متعاقبة، رسمت وجوه الشهداء وارتفعت بها عن الأرض حتى لا ننسى، حملات التجديد وإعادة تخطيط الميادين بالكامل، وقانون حظر الرسم لرسامى الجرافيتى، وحتى إعادة بناء ميدان “رابعة العدوية” بالكامل فى فترة وجيزة لم تسمح بالشهادة على حقبة حكم الإخوان وثورة 30 يونيو، هى أشكال استبدال الثورة بأخرى لا تحتفظ بالمعالم ذاتها، لم تعد جدران الميادين تحكى الحكاية منذ بدايتها واختفت أهم معالم الجرافيتى من فوقها بعد أن ظلت لمدة ثلاثة سنوات كاملة تؤكد بإصرار على المطالب التى خرجت منذ اللحظة الأولى.
“إللى كلف ما ماتش” إحدى الأيقونات الحية على واجهة جدار مدخل شارع “محمد محمود”، ثلاثة سنوات كاملة ظلت الفكرة والرسمة التى تغيرت مراراً صامدة أمام محاولات مسحها وتشويهها، وحرص راسمها “عمر بيكاسو” على تطويرها عاماً بعد آخر مع تطور الأحداث، بداية من تنحى مبارك مروراً بالثورة على المجلس العسكرى ثم أحداث شارع “عيون الحرية”، والثورة على حكم الإخوان “وعزل مرسى”، وحتى النموذج الأخير الذى أظهر شخصية مبهمة وعلامة استفهام تعبيراً عن الرئيس القادم قبل أن تختفى من فوق الجدار تماماً بعد ثلاثة سنوات من الصمود.
“هى جت على دى”.. بإحباط واضح اكتفى بيكاسو بهذه العبارة للتعليق على تغيير شكل الميادين، ومحو الذكريات من فوقها قائلاً “لم تتحقق مطالب الثورة وليس غريباً أن تتغير معالم الميدان، ويتم حظر الرسم بعد أن صنع الجرافيتى توثيقاً شاهداً على الأحداث”، لا تخفى كلماته خيبة الأمل بعد أن شاهد المعالم تتغير من حوله، ولم يعد ميدان التحرير هو ما عرفه يوماً.
فنان آخر ممن بقوا فى الميدان للتوثيق بريشة وألوان خلقت من الجدران صور حية لا تحتاج لكلمات هو “أحمد بيرو” الذى كتب “القصاص” على جدران الجامعة الأمريكية للمرة الأولى، ولم تكل يديه من رسم وجوه الشهداء على كل جدار مر بجانبه، وهو أول من سرد الثورة على جدران المتحف المصرى، الإحباط ذاته هو ما تحدث به “بيرو” بعد مسح أهم معالم الجرافيتى وتغيير شكل الميدان بنصب تذكارى وصفه “بغير المعبر عن ثورة عظيمة مثل ثورة 25 يناير”، أما القانون الجديد لتجريم الجرافيتى فوصفه بيرو قائلاً “هيرجعونا تانى لنظام “ارسم واجرى” بعد أن فتحت لنا الثورة أبواب الحرية فى التعبير على الجدران ولعبنا دوراً فى سرد تفاصيلها وتدعيم هتافاتها ومطالبها بالرسم والألوان.
فى نظام مبارك كان الجرافيتى من التهم التى يعاقب عليها القانون، واليوم عادت القيود لمحاصرة الفن والتعبير” هكذا يصف بيرو قانون حضر الرسم الذى يفرض قيوداً على الحرية عاشها الرسم وتحدثت عنها الجدران، ويقول “مهما تغيرت الثورة وانطمست معالمها لن ننساها، وأتوقع أن يعود الرسم من جديد كأحد مظاهر التعبير بعيداً عن عيون الأمن، ورفضاً لقانون حظر الجرافيتى الذى يتنافى مع مطالبنا الأولى، ومش هنبطل رسم طول ما الثورة مستمرة”.
المصدر: اليوم السابع
.